قال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، إنهم لا يذهبون إلى خارج الولايات المتحدة دفاعا عن الديمقراطية أو الشرعية الدولية أو لمحاربة الدكتاتورية، بل "نذهب إلى هناك لأننا لن نسمح بأن تمس مصالحنا الحيوية".
وتتمثل المصالح الاستراتيجية شرق أوسطياً في حماية النفط، والحفاظ على "إسرائيل" وحماية نفوذها في المنطقة.
إلا أن تحولات في مسار الإستراتيجية الأمريكية بالشرق الأوسط طرأت في ظل حكم الرئيس دونالد ترامب، يمثل الوقوف عليها مفتاحاً لفهم السلوك الأمريكي الجديد بالمنطقة.
ويمثل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الشرعية الدستورية، وهو الذي يرسم السياسات الخارجية، وإدارة مصالحها الاستراتيجية.
في المقابل فإن الولايات المتحدة هي دولة مؤسسات تحافظ على رقابة دوائرالدولة وفق النظام والدستور، وبالتالي فإن قوة وزارة الدفاع "البنتاغون" والاستخبارات المركزية "CIA" أيضاً تمثل ميزان قوة وأهمية في صناعة القرار الأمريكي، لا سيما في إدارة الحروب وقيادة أساطيلها حول العالم.
وبطبيعة الحال فإن لكل رئيس رؤية يحاول تحقيقها منسجماً مع مسارات الاستراتيجية الأمريكية.
ومع مجيء ترامب إلى الحكم، شهد مسار هذه الاستراتيجية مجموعة من التحولات في طبيعة إدارتها في الشرق الأوسط، تقاطع ذلك مع مجموعة من التحولات الاستراتيجية في المنطقة.
وتقوم رؤية ترامب على تحقيق التنمية الاقتصادية، لكن هذه الرؤية تصادمت مع مصالح واشنطن وأدت إلى تراجع أدائها أو ربما مؤشر لشكل جديد من إدارة نفوذها، كما يذهب الكثير من المراقبين.
وبما أن أي نجاح أو فشل يتم قياسه بمؤشرات تحقق البناء عليه، فمن مؤشرات تراجع الاستراتيجية الأمريكية شرق أوسطياً: عدم القدرة على الرد على استهدافات "أرامكو"، وتصدع مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وعدم القدرة على تحقيق مشروع التقسيم الجديد "صفقة القرن" على الأقل في هذه المرحلة، وتراجع قوة ونفوذ الحلفاء.
سلوك ترامب في طبيعة وضوح المسار الأمريكي الاستراتيجي، فضلاً عن صعود قوى الشرق روسيا والصين وتقدمها أمام الولايات المتحدة، يعطيان مؤشرات على فهم مجريات الأحداث، لكن ذلك لا يجزم بحدوث تراجع بقدر أن يكون شكل جديد في إدارة المشهد.
** تعارض الرؤية الأمريكية في إدارة القوى الإقليمية:
وحيث تناولنا مؤشرات التراجع فإن هناك مجموعة من المسببات أهمها: توجه الولايات المتحدة للتحرك في شرق وجنوب شرق آسيا في المرحلة الحالية والذي سيزيد من التواجد الأمريكي هناك، لحماية المصالح الاقتصادية، وهو الأمر الذي يتعارض مع المشهد الإقليمي الذي تريد واشنطن ملئ الفراغ فيه، والذي يتقاطع مع مجموعة من التحديات أيضاً.
وهنا يمكننا التطرق إلي طبيعة البيئة والقوى الإقليمية، حيث يوجد في المنطقة أربع قوى استراتيجية في المرحلة الحالية، وهي: تركيا، وإيران، وإسرائيل، ويمكن إلحاق السعودية التي تراجعت في المنطقة.
تعمل هذه الدول الأربعة على توازنات ميدانية تعطل النفوذ الأمريكي شرق أوسطياً وتمنع تحقيقه، انطلاقاً من طبيعة إدارة ترامب، وصعوبة تحقيق توازن بين القوى.
فهل تترك واشنطن الباب لإيران التوسعية التي تريد إنهاء إسرائيل؟ أم تترك المجال لتركيا التي تنسجم مع محيطها في البيئة الإقليمية في ظل النظام الحاكم هناك؟.
وفي حال اتخذت الإدارة الأمريكية قراراً بخوض حرب شاملة وأنهكت إيران، فإن الأمور ستتجه لصالح قوة تركيا، التي تنسجم مع المنطقة العربية وقربها منها.
ومن ثم عملت الولايات المتحدة على تحقيق بديل استراتيجي يدير الاستراتيجية من قبل الحلفاء إسرائيل والسعودية.
وتعمل واشنطن على ذلك من خلال تعظيم قوة إسرائيل ودمجها في المنطقة وإدخالها في المثلث السعودي الإماراتي، على قاعدة أن الرياض وأبوظبي تنفقان المال وتعززان حضور إسرائيل.
فيما تحقق تل أبيب القوة الأمنية والاستخباراتية وتضعف النفوذ الإيراني، وبهذا تصبح للولايات المتحدة اليد العليا لكن من خلال حلفائها التقليديين.
بيد أن ثمة مخاطر وظروف طرأت، أعطت مؤشرات على التراجع والفشل في تحقيق ذلك، إذ تم استهداف "أرامكو" عبر طائرات مُسّيرة، لم تلتقطها الرادارات الأمريكية، ولا منظومة "الباتريوت" السعودية أمريكية الصنع.
ومن هذه المؤشرات أيضًا، تعاظم قوة إيران الإقليمية في الخواصر الحرجة لإسرائيل، وتعاظم التواجد الروسي في الشرق الأوسط لا سيما الوصول والتمركز على المياه الدافئة، في المتوسط عبر ميناء اللاذقية.
** تعاظم قوة إيران
رغم توقيع الرياض عقدين مع شركة "لوكهيد مارتن"، لتحديث منظومتها الدفاعية التي صنعتها الشركة الأمريكية ذاتها عامي 2014 و2015 ، إلا أن التسليم يستغرق عدة سنوات، جراء تأخر المصادقة بعراقيل من الكونغرس أو البيت الأبيض، على خلفية سجل السعودية الحقوقي بشكل خاص، فضلا عن عمليات التصنيع والاختبار والنقل التي تستغرق نحو ست سنوات.
ربما تصب هذه الاتجاهات في تعظيم الضغط الأمريكي على المملكة بهدف تحقيق القيمة الأعلى في استنزافها استراتيجياً، لكنه يتعارض مع تقدير الموقف، حيال ما إن كانت واشنطن تريد السعودية كقوة نافذة أم قوة ضعيفة خاضعة للابتزاز من كل الأطراف.
وفي ظل تضارب السياسات الأمريكية بالشرق الأوسط الذي رصدته إيران، وجهت الأخيرة ضربات حيوية للمصالح الأمريكية في المنطقة، وهو أمر أثار مخاوف تل أبيب، لذلك لا يستبعد أن تتجه طهران لتوجيه ضربة لإسرائيل بهدف خفض القيمة الاستراتيجية لها، وضبط حدود نفوذها.
ما لا يصب في صالح واشنطن أيضاً، هو انشغالها الحالي بأزمة داخلية معقدة ممثلة في محاولات عزل ترامب، وإذا ما كان سيفوز بولاية جديدة في انتخابات 2020 أم أن منافسه العجوز جو بايدن، سيكون قادراً على إقصائه.
** سلوك ترامب في إدارة الملفات
"الانسحاب الإيجابي في خدمة الاقتصاد"، هل يمكننا تسمية استراتيجية ترامب بذلك؟، وإن صحت التسمية هل يمكن بناء الاقتصاد على حساب المصالح الأمريكية الاستراتيجية؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون خللاً في إدارة ترامب، وليس في الاستراتيجية الأمريكية.
وربما يدور الحديث أيضاً عن رؤية جديدة يقودها ترامب في طريقة إدارة العلاقة مع الحلفاء من أجل الضغط عليهم للدفع المالي مقابل الحماية، وفي المقابل ترك القوى تتصادم وتنهك وتتدخل واشنطن في المشهد الأخير لضبط الإيقاع، بدلاً من التدخل المباشر الذي يستنزفها.
عملياً، بدا أن ترامب يحمل في يديه معولاً ويهدم أركان الولايات المتحدة التي يقول إنه يريد أن يجعلها "عظيمة" من جديد، فخرج من 14 معاهدة ومنظمة دولية، وخالف عشرات القرارات الأممية حين نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، واعترف بها عاصمة لإسرائيل، وألحق الجولان بالخارطة الإسرائيلية.
هل ستنجح طريقة ترامب في إدارة الاستراتيجية الأمريكية؟ وهل ستكشف الأيام براعته، أم هي إخفاقات وضعف خلقه هو تزامن مع صعود قوى إقليمية؟.
خلاصة القول: لا يمكن للولايات المتحدة أن تترك الشرق الأوسط بكل الأحوال، لما يحمله من أهمية استراتيجية كبيرة، وموقع حيوي ومركز نفوذ، وإماكنات النفط والطاقة، والممرات الحيوية في المياه والمضائق، إلا إذا أُجبرت على ذلك.
هذا الإجبار يعني أن الأساطيل الأمريكية تعرضت لشلل كامل في أماكن تواجدها، أو حدوث انهيار من الداخل.
إذاً هي استراتيجية أمريكية مؤقتة وإن كانت تحمل هوامش مخاطرة، لأنها لن تبقى على ذلك الحال، لكن يبقى السؤال: كيف سيرمم من يأتي بعد ترامب قوة الردع المتضررة أمام إيران لاسيما إن كان ذلك يعني الدخول في حرب شاملة.