نادرًا ما نشهد في الشرق الأوسط أن يؤدي تحريك حجر واحد إلى تغيير بهذا الشكل الواسع ليؤثر على المشهد بأكمله، ويعيد ترتيب الكثير من أوراقه.
وقد تحقق ذلك جزئيًا لأن عملية استبدال الأحجار القديمة بالجديدة جاءت متزامنة مع سياق عالمي؛ إذ كانت الخيارات تنحصر بين أن تكون الأحجار كلها جديدة أو قديمة أو مؤقتة.
وعليه ليس هنالك خلاف سواء في الشرق أو الغرب، حول مدى التغيرات الجيوسياسية التي قد تنجم عن الأحداث الجارية في سوريا.
ويمكن تلخيص الوصف العام المشترك للأوضاع على النحو التالي:
إن تغير الوضع في دمشق أدى إلى توسيع وتعزيز النفوذ التركي جغرافيًا، ليشمل الهند شرقًا، وروسيا شمالًا، وصولًا إلى إيطاليا وإسبانيا عبر البحر المتوسط غربًا، وشبه الجزيرة العربية بأكملها والقرن الأفريقي والسواحل الشمالية لأفريقيا جنوبًا.
وكما ذكرنا سابقًا، فإن جهود الوساطة لبناء السلام بين إثيوبيا والصومال لا يمكن تصنيفها على أنها مجرد تزامن، بل هي امتداد لخريطة النفوذ التركي. والأمر ذاته ينطبق على ليبيا، فليس من قبيل المصادفة أن تنقل روسيا بعض الأسلحة من قواعدها في سوريا إلى ليبيا، تمامًا كما تدرك تركيا الدور الحيوي لليبيا في قطاع الطاقة. ولا حاجة لتكرار الحديث عن الديناميات المتعلقة بأفغانستان وباكستان وأذربيجان وقبرص.
والوضع مشابه في العراق، إذ ساهم مسار العلاقات بين أنقرة وبغداد في تسهيل الأمور في سوريا، والآن سترد "دمشق الجديدة" الدين للعراق. وهذا يعكس هشاشة النفوذ الإيراني على العراق.
وعند إضافة خط القوقاز والبلقان مع دول منظمة الدول التركية وآسيا الوسطى، فسنجد أن جاذبية أنقرة قد زادت في نطاق جغرافي يتجاوز حدود "الشرق الأوسط الكبير".
هل كان كل هذا نتيجة سقوط نظام الأسد؟ الإجابة هي: نعم ولا. فقد كانت تركيا تبني علاقات منهجية مع المناطق المذكورة وتستثمر فيها منذ فترة طويلة، ولكن كانت هناك منافسة أيضًا. والآن سقطت واحدة من أهم ركائز تلك المنافسة، مما فتح المجال أمام تركيا لخوض سباقات طويلة. وبالحديث عن "الاستثمار"، هل يمكن أن يُعزى النفوذ التركي المستقر في سوريا إلى الأسبوعين الماضيين فقط؟ نحن نتحدث عن خمس سنوات من الجهد منذ عام 2019.
بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا لأن هذه المنطقة إحدى مناطق المنافسة الشرسة في اللعبة متعددة الأقطاب، فإن أي خطوة تتخذها تركيا تحظى بدعم تلقائي من أحد الأطراف المتصارعة على الأقل.
وبناءً على ذلك، باتت تركيا الآن "مركزا لإنتاج القوة الإقليمية"، وكما أشرنا مرارًا، "دولة متوسطة الحجم لكنها غير تقليدية ومحدَّثة". وهذا يعني أنه يمكنها ـ إذا أرادت ـ إحداث أضرار في أحد أطراف الصراع العالمي متعدد الأقطاب، أو سدّ الثغرات وإصلاحها.
لقد خلق الوضع الجديد حالة أو فرصة مكّنت تركيا من أن تصبح عنصرًا لا يمكن تجاوزه في الحسابات الاستراتيجية للدول الرئيسية في المنطقة. فلا يمكن لأي دولة ذات وزن في المنطقة أن تتخذ خطوات غير متكافئة دون أن تأخذ تركيا بعين الاعتبار.
وفوق كل ذلك، فإن موقف تركيا الصامد والواضح في الأزمات الكبرى التي تشهدها المنطقة، ولا سيما في قضية فلسطين وغزة، والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، قد حظي بتأييد شعبي واسع في المنطقة، وهذا أيضاً يُمثل دعمًا شعبيًا واسع النطاق، وهو أمر بالغ الأهمية.
وبناءً على الوضع الراهن، وعندما تكون الأمور على ما يرام، يجب علينا أن نؤكد هذه الجملة؛ مع هذا المشهد الباهر ستتجه أنظار الحاسدين نحونا.
وبعد رسم صورة مماثلة تخلص صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى القول: "هذه العملية تعمل على ترسيخ مكانة تركيا كقوة سنية شاملة، مما يضعف مطالبة المملكة العربية السعودية بالقيادة الإقليمية. وبالنسبة للرياض والإمارات العربية المتحدة، فإن هذه الديناميكية الجديدة تذكرهم بالدور الذي لعبوه في دعم الانقلاب العسكري الذي أطاح بمحمد مرسي في مصر، وصعود الحكومة الإسلامية المدعومة من تركيا في 2012. (“The balance of power is shifting in the Middle East-and it is Turkey’s ‘full moon’ on the rise”, 19/12.)
في الجيش، تقوم وحدات الهندسة بوضع علامات تحذير حمراء على الألغام التي يعثرون عليها في الميدان، ويجب أن نقرأ المقالة كأننا نتعامل مع هذه العلامات الحمراء.
وجوهر المقالة لا يقتصر على وصف أبعاد صعود تركيا، بل يشير أيضًا إلى أنها تخلق بنية قد تعقد التوازنات الإقليمية، بل تذهب أبعد من ذلك مشيرة إلى أنها تقدم بديلاً أو تهديدًا لدول الخليج.
ربما يجب أن نأخذ هذا التحذير من الصحافة البريطانية على محمل الجد. وبالنسبة لمن يرى وجود تحالف بين تركيا وبريطانيا وقطر في سوريا والشرق الأوسط بشكل عام، يمكن اعتبار هذا نصيحة أو تحذيرًا.
وفي حين أن العالم أجمع يربط الأحداث الجارية في سوريا بتركيا، فإن حرص أنقرة على الظهور بدور أقل بروزًا في التدخل الفعلي قد يكون راجعًا إلى رغبتها في الحفاظ على مسافة مع التدخل المباشر في الممارسات العملية للثورة.
وإذا كان هناك بالفعل قلق من هذا النوع لدى الإدارات الإقليمية، وهو أمر ليس مستغربًا بالنظر إلى حساسيتهم حيال هذه القضية، فينبغي أن نضع في الاعتبار احتمال تداخل هذا التوجه مع السياسات الإسرائيلية.
ومن المعلوم أن العلاقات التركية الإسرائيلية متوترة للغاية. ورغم الإشارات الإيجابية التي أرسلتها إدارة ترامب بشأن التعاون مع أنقرة في سوريا والعراق، إلا أنه من غير المتوقع أن تقدم الإدارة الأمريكية الجديدة تنازلات عندما يتعلق الأمر بتل أبيب.
إذا ما تذكرنا اتفاقيات إبراهيم التي أطلقنا عليها اسم "التحالف العالمي" خلال ولاية ترامب الأولى، والقرار بشأن مرتفعات الجولان، فإننا نجد أن احتمال تنسيق إسرائيل والسعودية والإمارات، وحتى مصر التي بدأت تتعافى، على موقف موحد هو أمر جدير بالمتابعة.
وفي ظل هذه التطورات المتسارعة، من الممكن أن تنشأ مثل هذه التعقيدات. ولا يمكن أن نتصورأن تكون أنقرة غافلة عن ذلك. فالكثافة التي نراها في عمل الدبلوماسية التركية، وحركاتها الدفاعية الفردية، وجدول أعمالها المزدحم بالاجتماعات الثنائية والمتعددة الأطراف، تشير إلى أنها تسعى إلى تجاوز المخاوف وتوسيع نطاق تأثيرها.
ولا بد أن هذا هو مغزى التصريحات المتكررة الصادرة عن أنقرة والتي تدعو إلى "العمل معًا، وبشكل جماعي، من أجل مصالح الجميع، منعاً للتدخلات الخارجية". والخلاصة أن أنقرة تدرك تمامًا ما تقوم به، بينما يتساءل الآخرون عما يجب عليهم فعله لأنهم لا يدركون ذلك.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة