الكتابُ العربي في تركيا حُضورٌ مُبشِّر وتحديّاتٌ مُقلقة

15:0719/12/2025, الجمعة
تحديث: 19/12/2025, الجمعة
أخرى
معرض الكتاب في إسطنبول
معرض الكتاب في إسطنبول

مدير "بيت فلسطين للثقافة" الشاعر سمير عطية يتحدث عن واقع الكتاب العربي في تركيا، مسلطًا الضوء على عوامل ازدهاره خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب التحديات التي تواجه صناعة النشر والمعرفة العربية في البلاد.

بقلم الكاتب والشاعر الفلسطيني: سمير عطية

في مكتبتي الصَّغيرة، أكثر من 100 عنوان لكتب باللُّغة العربيَّة، صَدرت في الجمهورية التركية من بعد عام 2012م، حتى كتابة هذه السُّطور في آخر شهر من عام 2025م.

هذا العدد يُعدُّ قليلا جدًّا، أمام ما صدر خلال هذه الفترة الزمنية من إصدارات باللُّغة العربية في تركيا، وأمام ما أعرفه من إصدارات موجودة في دور نشر ومكتبات منزلية ومؤسسية، حَظِي الكتاب العربي الصَّادر في تركيا بِمَكانه فيها.

يقودني هذا إلى أسئلة ثقافيّة ومعرفيّة مهمة، كيف نشطت حركة التأليف والنشر في تركيا عموما وإسطنبول خصوصاً؟ وما هي الأسباب التي تُفسّر هذا النشاط التأليفي العربي في تركيا؟

من المعروف لديكم أنَّ الكُتب لا تحتفظ بمكانها على الرّفوف، بل في القلوب والعقول.

الكاتب والشاعر الفلسطيني: سمير عطية

وقد عايشتُ تجارب ثقافيّة ومعرفيّة عن قرب في عدد من المدن التركية خلال الأعوام الماضية، شاركتُ فيها بشكل مباشر، فرديًّا ومؤسسيًّا، وهذه الفعاليات والتجارب لم تكن في مدينة إسطنبول فقط، بل في مُدن أنقرة وغازي عنتاب وهاتاي ومرسين وأضنة وقونيا وكلّس وكهرمان مرعش، ويمكن أن أُلخّصها في الأسباب التَّالية:

1- الهجرة العربيّة إلى تركيا من عدة أقطار مهمة بعد أحداث "الرَّبيع العربي"، وخاصة من سوريا ومصر وتونس واليمن، إضافة إلى أحداث سياسية أخرى في دول مثل العراق، ناهيك عن الحضور الفلسطيني وعدد من أبناء الجنسيات العربية والإسلامية الأخرى، وهذا ما جمع بين الكثافة العددية، وتنوّع الثَّقافات المجتمعية رغم هويتها الدّينية الواحدة.

2- الانتشار العربي عموماً والسُّوري خصوصاً في المدن التركيّة، وما أتبع ذلك من وجود مؤسسات وجمعيّات وطلاب مدارس وجامعات، ومراكز مجتمعيّة.

3- معاناة كثير من الكُتَّاب من أجواء التضييق في البلاد التي عاشوا فيها، والتي منعتهم سابقاً من استمرار التأليف أو النشر أو كليهما.

4- أجواء الحريَّة الثقافية والمعرفية والعلمية في الجمهورية التركية، التي شجَّعت على التأليف، وحفَّزت على النَّشر.

5- المكانة التاريخيَّة لتركيا في الضَّمير العربي والإسلامي، والتي أشعرت الكاتب أنه في بيئة ينتمي إليها حضاريًّا.

6- انطلاق المبادرات الفردية أو الجماعية، وانتشار العمل المؤسسي بتخصصات شرعيّة وفكريّة وسياسيّة وثقافيّة وأدبيّة وحقوقيّة واقتصادية وغيرها، وسرد هذه التَّخصصات يعكس الثراء المعرفي الذي حصل في هذا المضمار.

7- تنوّع الأسعار المُتاحة في الطّباعة الورقيَّة.

8- أجواء التَّنافس أفراداً ومؤسسات، من أجل التأثير الثقافي والمعرفي والتَّعليمي المنشود.

9- تصاعد المنحنى البياني في إنشاء دور النَّشر أو افتتاح فروع لها في إسطنبول خاصَّة، وما لهذه الدُّور من جهود معرفية، ومشاركات في معارض الكتاب العربي.

10- انطلاق مشروع معرض إسطنبول الدَّولي للكتاب، الذي يُعدّ أكبر فعالية ثقافيّة ومعرفيّة وتعليمية عربية في الجمهورية التركية على مدى عشرة أعوام متواصلة.

11- تنوّع الفئات العمريّة، وبالتَّالي انعكاس ذلك على حركة التَّأليف بالتَّخصصات والرُّؤى والمُنتج المعرفي، فوجدنا التجارب الإبداعية الشَّبابية، والمؤلَّفات القيّمة في مجالات فكرية وسياسية ودينية لأسماء معروفة وشخصيات مؤثّرة.

12- وجود مجتمع صناعة المعرفة، من المُؤلِّفين والمُصمِّمين والمطابع ودور النَّشر والمكتبات والقرّاء، جعل من حضور الكتاب نتيجة طبيعيّة في ظل وجود عناصر الصّناعة المعرفيّة والثقافيّة.

13- النَّهضة الحضاريّة في تركيا، من مرافق ومواصلات وشحن داخلي وخارجي للكتب، ساعد كثيراً في توهّج العمل المعرفي العربي في تركيا.

لقد شكَّلت هذه العوامل المهمّة، نهضة معرفيَّة للكتاب العربي في تركيا، أعطته امتداداً جغرافيًّا خارج الوطن العربي، وشجَّعت على مبادرات للكِتاب في المَهاجِر القريبة والبعيدة.

أمام هذه العوامل الإيجابية التي حفَّزت على صناعة المعرفة للكتاب العربي في تركيا، يبرز سؤال مهم:

ما هي التَّحديات التي تواجه صناعة الكتاب العربي في تركيا؟


وقد عايشت العديد من هذه التَّحديات ورأيت مؤسسات ودور نشر وكُتَّاب وقُرَّاء واجهت وما زالت عدداً من هذه التَّحديات، ومن المفارقات المُلفتة، أن يشترك بعضها مع التَّحديات، التي تواجه صناعة المعرفة في العالم العربي نفسه، وهي على النَّحو التَّالي:

1- تزوير الكتب الورقيّة "القرصنة الإلكترونيَّة والورقيَّة"، رغم ما يُبذل ماليًّا من الكُتَّاب ودور النَّشر والمؤسسات والجمعيَّات العربيّة من أجل إيصال هذه الكتب إلى القرّاء، والعمل على الحصول على تكاليف الطّباعة والتأليف في عدد من هذه الإصدارات.

وبما يَتعلّق في البُعد التِّجاري، فهذه القرصنة تُعد تهديداً حقيقيًّا لِدور النَّشر، واستمرارها في دورها، ورغم ما يُبذل حكوميًّا في تركيا وخارج تركيا لمواجهة هذا التَّحدي، غير أنَّه ما زال حاضراً، ويعمل على تآكل الانتشار السَّليم للكتاب الشَّرعي.

2- غلاء الأسعار والتَّضخم الاقتصادي، بات عائقاً بين القارئ والكتاب، رغم وجود الكتاب في دور النَّشر والمكتبات العربية ومعرض إسطنبول الدَّولي للكتاب، والفعاليات المعرفيَّة التي تُقام على مدار العام، وقد قال أحد القرّاء لي ذات يوم عن هذا الحال بالمثل الفلسطيني "العين بصيرة والإيد "اليد" قصيرة"، أي أنَّه يُدرك أهمية الكتاب ولا يستطيع شراءه، ولأنَّه عامل مؤثّر في سوق الكتاب والمعرفة، فقد درسته بوعي وحكمة عدد من المؤسسات العربية، فأطلقت جمعيات قسائم شراء للطُّلاب في عدد من معارض الكتاب، وقامت إدارة معرض إسطنبول للكتاب في موسمه العاشر بتخصيص جناح خاص بالكُتب المُخفَّضة.

وهي مبادرات إيجابيّة لكنها موسمية، ويحتاج الأمر إلى حلول أكثر استمرارية، وورش عمل للوصول إلى أفكار تخفف كثيراً من هذا الأمر، مثل مبادرات قديمة في بعض الدُّول العربيّة: كتاب بجنيه واحد، وهي مبادرات تحتاج لتكامل وزاري ثقافي عربي أو تركي أو اقتصادي معرفي.

3- غياب الدَّعم الاقتصادي العربي في تركيا للمبادرات والمؤسسات الثقافيّة، وذلك رغم وجود الكثير من رجال الأعمال العرب والشَّركات التِّجارية العربية في تركيا، إلا أنّ اهتمامها بالمعرفة لا يكاد يُذكر، فبقيت المسارات الاقتصادية العربية في تركيا تسير بشكل متوازي مع الأنشطة الثقافية المعرفيّة، رغم حاجة كل مسار إلى الآخر.

4- يدرس الطُّلاّب العرب في المدارس الحكوميّة مناهج اللُّغة العربية لغير النَّاطقين باللُّغة العربيّة.

وهذا يجعل التَّحصيل الثقافي والمعرفي محدوداً لدى الآلاف من الطُّلاب العرب، وتوجههم إلى مبادرات المراكز المجتمعية في أيام السبت والأحد، وعطلة منتصف العام الدّراسي، والصَّيفية، لتعويض النَّقص لديهم في اللُّغة العربية، وتأثير هذا بشكل مهم على حضور الكتاب العربي، والمستوى المعرفي الذي يتم الإقبال عليه من قِبل هؤلاء الطُّلَّاب والطَّالبات.

5- عدم التفات كثير من الأسر العربيّة إلى برامج تطوير المعرفة وتعزيز الثقافة واستكشاف الإبداع لدى أبنائهم، وتقديم دراسة المَناهج التعليميَّة على أهمية هذا وضرورته على باقي الجوانب التي تُنمّي الشخصية المعرفيّة لدى أبنائهم.

6- الضَّعف الشَّديد في الحضور الثَّقافي العربي الرَّسمي في دعم المُبادرات الثَّقافية العربية في تركيا، وللأسف أنَّ كثيراً من وزارات الثقافة العربيّة مُقصرة في دورها المحلّي، ناهيك عن الالتفات إلى دعم ثقافي ومعرفي لمبادرات للثقافة العربية في دول أخرى، إضافة إلى "تقوقع" هذه الوزارات في سياسات ثقافية محليَّة.

7- ضعف التَّنسيق بين الجمعيَّات في المسارات الثقافيّة والمعرفيّة، وقد أثبتت التَّجارب التي حدث فيها التّنسيق أنَّ النتائج تكون مُبشرة، بفعاليات وبرامج في محاضرات وندوات ومهرجانات ومسابقات وورش ودورات تدريبية وأروقة لقراءة الكُتب، هذه التّجارب على الرّغم من تناثرها الزّمني والجغرافي هنا وهناك إلا أنّها تُبشّر بأنَّ ضعف التنسيق ليس قدراً أزليًّا بل هو تقصير بشري يحتاج إلى استدراك.


• على أبواب عام جديد:

نبدأُ عاماً جديداً برصيد معرفي كبير، وبتجارب ثقافيّة ثريّة، نعرف فيها عناصر القوة، والتحديات التي تواجه انتشار المعرفة، والقدرة على قراءة المشهد المعرفي للكتاب العربي هو قوّة للعاملين في هذا المضمار، كي يعملوا لتجاوز هذه العوائق، والقدرة على تطوير الواقع للكتاب العربي في تركيا، وقد يكون صحيحاً أنَّ الأعوام الماضية كانت تحمل روحاً إيجابية للعمل، يمكن أن نطلق عليها "متفائلون رغم التَّحديات"، وهذه الرُّوح التي ينطلق بها كل غيور على الكتاب في كل مكان، والكتاب العربي في تركيا.

****

#الكتاب
#معرض الكتاب إسطنبول
#تركيا
#سمير عطية
#فلسطين
#شاعر فلسطيني