التفكك الأسري.. الأسباب والآثار

08:3215/01/2025, Çarşamba
تحديث: 15/01/2025, Çarşamba
ياسين اكتاي

تُعد الأسرة في تركيا من أهم المؤسسات التي تعبر عن هويتنا الوطنية وتشكل مصدر فخر لنا. فهي المؤسسة الأساسية والطبيعية التي تُغرس فيها قيمنا التي تجعلنا ما نحن عليه والتي نكتسب فيها أولى معارفنا. ولذلك لطالما اعتبرنا الحفاظ على بنية الأسرة كما هي، مسألة حيوية لبقائنا كأمة. وتُمثل الأسرة الأساس الذي تستمد منه جميع المؤسسات الاجتماعية الأخرى وجودها، ويُعاد فيه إنتاجها. فهي المدرسة الأولى التي يتلقى فيها الإنسان تعاليم الدين والقيم الأساسية والوعي الأول بعلاقة الدولة بالشعب. إلى جانب ذلك تُشكِّل الحياة

تُعد الأسرة في تركيا من أهم المؤسسات التي تعبر عن هويتنا الوطنية وتشكل مصدر فخر لنا. فهي المؤسسة الأساسية والطبيعية التي تُغرس فيها قيمنا التي تجعلنا ما نحن عليه والتي نكتسب فيها أولى معارفنا. ولذلك لطالما اعتبرنا الحفاظ على بنية الأسرة كما هي، مسألة حيوية لبقائنا كأمة.

وتُمثل الأسرة الأساس الذي تستمد منه جميع المؤسسات الاجتماعية الأخرى وجودها، ويُعاد فيه إنتاجها. فهي المدرسة الأولى التي يتلقى فيها الإنسان تعاليم الدين والقيم الأساسية والوعي الأول بعلاقة الدولة بالشعب. إلى جانب ذلك تُشكِّل الحياة الأسرية، بما تتضمنه من روابط الأبوة والأمومة والأخوة والقرابة، الضمان الأقوى لنمو الإنسان الشخصي والنفسي. وعندما تتفكك بنية الأسرة، تنهار الأسس التي تعتمد عليها تلك القيم، مما يجعل تعويض هذا النقص عبر المؤسسات التعليمية الرسمية لاحقًا أمرا بالغ الصعوبة.

والأهم من ذلك أن الحياة الأسرية هي ضمان لاستمرار النمو السكاني، أي لعملية تجديد النسل. فقد كانت الأسرة ذات الأطفال الكُثُر في تركيا لعقود العامل الحاسم الذي مكّن البلاد من التفاخر بتركيبتها السكانية الشابة لسنوات طويلة. ولكن بدأت تركيا في السنوات الأخيرة تفقد هذا الامتياز بشكل متسارع، لدرجة أن هذه القضية باتت تشكِّل تحديا كبيرا للبلاد.

فقد انخفض معدل الخصوبة في تركيا من 2.38 طفلًا في عام 2001 إلى 1.51 طفلًا في عام 2023، مما يعني أنه أصبح أقل من مستوى الإحلال البالغ 2.10 طفل. ويشير هذا الانخفاض، مهما كان منظورنا إليه، إلى خطر كبير يهدد بنية الحياة الأسرية. وفي نفس الوقت يشكل تناقضًا صارخًا مع التطورات الهائلة والإنجازات التي حققتها تركيا في مختلف المجالات خلال السنوات الـ23 الماضية. فهل هذا التراجع في الحياة الأسرية هو ثمن التطور السريع والتنمية غير المسبوقة التي تشهدها البلاد منذ 23 عاما؟

وفي حفل إطلاق فعالية "عام الأسرة" الذي نُظم يوم الاثنين في المجمع الرئاسي، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن عام 2025 سيكون "عام الأسرة". وأكد أن الأنشطة التي ستُنفذ في إطار هذا العام ستُدعم بسياسات سكانية فعالة وذات كفاءة عالية، بهدف بناء قاعدة قوية ومستدامة على المدى البعيد، وأنها ستكون إحدى الأولويات الكبرى. وذكر أردوغان أن وزارة الأسرة قد أطلقت، في 25 ديسمبر، مؤسستين رئيسيتين هما "معهد الأسرة" و"مجلس السياسات السكانية"، اللتين ستعملان تحت مظلتها. وسيتولى المجلس وضع استراتيجيات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لضمان بنية سكانية صحية، في حين سيُكرس المعهد جهوده لإجراء دراسات علمية وأكاديمية وتطوير سياسات تهدف إلى تعزيز الأسرة، التي تُعد قضية مصيرية لمستقبل الأمة.

إن إنشاء هذا المجلس يمثل خطوة بالغة الأهمية بلا شك، إذ يعكس الوعي العميق بالمشكلة والاهتمام الكبير بمعالجتها. والواقع أن الرئيس رجب طيب أردوغان يدرك منذ سنوات خطورة هذا الاتجاه السلبي في السلوكيات الأسرية والديموغرافية، وقد عبّر عن ذلك مرارًا من خلال دعواته المستمرة إلى إنجاب "ثلاثة أطفال". إلا أن ما أصبح واضحًا اليوم هو أن مجرد التأكيد على هذا الأمر في كل مناسبة لا يكفي لوقف التحولات الاجتماعية التي تؤثر بعمق على الحياة الأسرية أو لمعالجة آثارها السلبية على الأسرة.

إحدى النقاط الحاسمة في هذا الصدد هي أن النمو السريع وغير المسبوق الذي شهدته تركيا خلال الـ23 عامًا الماضية تحمل ثمنًا باهظًا. وربما يتعين علينا أن نسعى لفهم أعمق للعمليات التي تؤثر على حياتنا الأسرية، وأن ندرك أن اتخاذ تدابير فعالة وجذرية يتطلب إعادة تقييم نموذجنا التنموي الحالي.

لقد أصبحت تركيا دولة تتسم بسرعة التمدن، والتوسع في التعليم الجامعي، والتطور الاقتصادي. ففي عام 1950 لم تتجاوز نسبة التمدن 20%، بينما تجاوزت اليوم 90%. بل إن القرى أصبحت مندمجة تماماً مع المدن. ومن نتائج هذا النمو أن المرأة أصبحت تشارك بصورة فعلية في سوق العمل، إلى جانب تبنيها نمط حياة فردي بدرجة أكبر، مما أدى إلى تغير أفكارها وتراجع ارتباطها بدورها التقليدي كأم. كما أن معايير الحياة المرتفعة لم تقوّض دور الأم فحسب، بل أضعفت أيضًا دور الأب.

لقد أدى ارتفاع معدل الالتحاق بالجامعات، والذي يتجاوز معدل العديد من الدول المتقدمة، إلى تشكيل شخصية جديدة وظهور ثقافة فردية مغايرة. هذه الثقافة الجديدة تترك مساحة ضئيلة للأسرة، خاصة تلك التي لديها أطفال. فالتدفق الكبير للطلاب أمام أبواب الجامعات بعد إتمام 12 عامًا من التعليم الإلزامي، حتى بالنسبة لأولئك الذين يجدون صعوبة في إتمام المرحلة الثانوية، قد خلق ديناميكية اجتماعية جديدة لا رجعة فيها.

وعند النظر للوهلة الأولى، يبدو هذا التطور إيجابيًا من حيث رفع مستوى التعليم أو من زاوية القيم المقدسة مثل "تكافؤ الفرص"، ولكن لهذا المشهد الإيجابي تكلفة أيضًا. فمثلا الوظائف التي كان من المفترض تؤديها هذه الفئة بشكل طبيعي تبقى شاغرة، مما يخلق فجوة في سوق العمل، ولكن الأثر الأهم يتمثل في تباعد هذه الفئة عن الحياة الأسرية، بل حتى الاغتراب عنها.

هذا الوضع يؤدي، أولاً وقبل كل شيء، إلى تغييرات جذرية في البنية الاجتماعية لتركيا. بمعنى أن التغير في بنية الأسرة هو نتيجة لتغيرات أخرى في مجالات متعددة، ثم تعود الحياة الأسرية بدورها لتؤثر على هذه المجالات بناءً على حالتها الجديدة.

وبالتالي يجب ألا نحصر أسباب تراجع دور الأسرة في تغير الآراء والمواقف التي تحدث داخل الأسرة نفسها. فالقضية أوسع ولها سياقات وأسباب اجتماعية أعمق وأكثر شمولًا.

إن العديد من الإجراءات التي تُتخذ بحسن نية قد تؤدي إلى نتائج سيئة للغاية. على سبيل المثال، التدابير القانونية أو الاقتصادية والاجتماعية المتخذة من أجل تمكين المرأة قد لا تحقق الهدف المنشود من تمكينها، بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث تصبح المرأة هي الضحية الأولى لهذه الإجراءات. والقوانين التي يُفترض أن تحمي المرأة في الظاهر قد أدت في الواقع إلى نتائج مغايرة، مما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الذي تنفرد به تركيا، ونتج عن ذلك حالات غريبة تجد فيها المرأة نفسها متروكة لمصيرها بلا حماية ودون دفاع. والحمد لله تم إدراك خطأ اتفاقية إسطنبول والعودة عنها، ولكن المشكلة لم تكن مقتصرة على تلك الاتفاقية فقط، وإلغاؤها لن يحل المشكلة بشكل كامل.

ولم نواجه بعد عواقب تشجيع المرأة على المشاركة بشكل أكبر في سوق العمل. فقد أدى ذلك إلى تفكك الأسرة وانخفاض معدلات المواليد بشكل خطير. وبدلاً من تشجيع المرأة على الانخراط في سوق العمل، يجب علينا اتخاذ تدابير تعزز من دورها داخل الأسرة، وتُقيّم الأعمال المنزلية والأمومة كأعمال مشرفة ومحترمة.

إن التغيرات التي طرأت على الأسرة هي نتيجة لتغيرات اجتماعية أخرى. ولذلك نحن بأمس الحاجة إلى فهم هذه التغيرات الاجتماعية بشكل أفضل وتقييمها واتخاذ سياسات واقعية وجذرية أكثر.

فالمسألة مسألة أمن قومي، ولهذا فإن العملية التي أطلقتها وزارة الأسرة في هذا السياق مهمة للغاية، ولكنها تتطلب سياسة وطنية شاملة تشارك فيها جميع المؤسسات المعنية.


#التفكك الأسري
#تركيا
#الأسرة
#المرأة
#معدل الخصوبة