عداء العقول المستعمرة ليوسف تكين

08:3320/11/2024, الأربعاء
تحديث: 20/11/2024, الأربعاء
ياسين اكتاي

لطالما تعرض المسلمون على مدار قرابة قرنين من الزمان إلى ضغوط تحثهم على الدفاع عن أنفسهم، والتساؤل والنقد الذاتي. وقد تبنى العديد من المثقفين المسلمين هذه الضغوط لدرجة أنهم أسسوا تحت وطأتها، خطاباً دفاعياً غنياً وأدبًا معرفيًا واسعًا. وقد ذكرتُ مؤخراً، في سياق آخر، إحدى المفاهيم التي صاغها الجزائري محمد أركون، وهو من أبرز المفكرين الذين ساهموا في هذا الخطاب الدفاعي المعقد. وقد تحدث أركون عن "المجالات التي لا يفكر فيها المسلمون" أو "لا يمكنهم تصورها" في الإسلام. لقد صور الوضع بطريقة قد تجعل المرء

لطالما تعرض المسلمون على مدار قرابة قرنين من الزمان إلى ضغوط تحثهم على الدفاع عن أنفسهم، والتساؤل والنقد الذاتي. وقد تبنى العديد من المثقفين المسلمين هذه الضغوط لدرجة أنهم أسسوا تحت وطأتها، خطاباً دفاعياً غنياً وأدبًا معرفيًا واسعًا. وقد ذكرتُ مؤخراً، في سياق آخر، إحدى المفاهيم التي صاغها الجزائري محمد أركون، وهو من أبرز المفكرين الذين ساهموا في هذا الخطاب الدفاعي المعقد. وقد تحدث أركون عن "المجالات التي لا يفكر فيها المسلمون" أو "لا يمكنهم تصورها" في الإسلام.


لقد صور الوضع بطريقة قد تجعل المرء يظن أن المسلمين يتجنبون بعض المواضيع، ولا يفكرون فيها، ولا يُسمح لهم حتى أن يفكروا فيها. لكن من المؤكد أن أركون إما أنه يتجاهل عن عمد أو يجهل تمامًا التعددية الغنية والشجاعة التي يمتلكها الفكر الإسلامي على مر تاريخه، والتي شملت كافة المواضيع والأسئلة في جميع مجالات التفكير. ففي تاريخ الفكر الإسلامي، لا يوجد مجال لم يخضع للتساؤل، ولا يوجد موضوع لم يُشكك فيه، أوتم تجاهله أو لم يُنظر فيه بشكل عميق بسبب وجود شبهة. بل حتى من يسعى للبحث عن أفكار متعارضة مع الفكر الإسلامي يجد بسهولة مصادر وأدلة لدعمه. هذا هو حال الفكر الإسلامي. ولكن ما دفع شخصًا مثل أركون إلى طرح مثل هذا المفهوم هو البيئة الفكرية التي كان يعمل فيها، فهي بيئة ليست إسلامية بطبيعتها بل فرنسية غربية. أي بيئة تتسم بالاستعمار من جهة وتدعي الحضارة الزائفة من جهة أخرى.


ورغم أن أركون لم يكن يعيش في الجزائر بشكل دائم، إلا أن وضع الجزائر كدولة محتلة قد قدم له الإلهام الكافي لرسم صورة عن بيئة الفكر الإسلامي. فمنذ القرن الماضي على الأقل، لم تكن هناك بيئة تسمح بإنتاج فكري إسلامي بعمق وكفاءة كاملة. ولم تكن هذه العوائق والقيود المفروضة على الفكر نابعة من الإسلام نفسه، بل على العكس من المستعمرين الذين وضعوا حدوداً صارمة على التفكير في أي موضوع. وقد وصف مالك بن نبي، وهو جزائري أيضاً، هذه الحدود بوضوح، حيث قال: "إن الاستعمار هو احتلال للذهن، ولا يمكن أن يحدث الاستعمار إلا إذا قبل المستعمر استعمار ذهنه". هذا النهج يلقي بضوء جديد على حقيقة الاستعمار التي عانينا منها طوال قرن كامل.


واليوم لا يدرك الكثير من الناس في الدول التي تعتبر نفسها حرة ومستقلة أنهم ما زالوا تحت الاستعمار. فالاستعمار الناعم هو عدو خبيث يتسلل إلينا دون أن نشعر به. وعلى النقيض من ذلك، فإن شعب غزة، على الرغم من احتلال أرضه، لم يستطع العدو احتلال ذهنه، وبالتالي لم يتمكن من استعماره.


والاستعمار، على العكس، يفرض نفسه من خلال المساحات التي لا يُسمح بالتفكير فيها. وذلك من خلال التبسيط والتسطيح والشعارات الجوفاء والجهل والفظاظة. وها هي دعوة وزير التربية والتعليم، البروفيسور يوسف تكين، إلى التذكر وليس إلى التفكير، كانت كافية لتحفيز العقول المستعمَرة. فالعقول والشخصيات المستعمَرة لا يمكنها حتى تحمل مثل هذه الأفكار.


إن ما قاله يوسف تكين بشأن العلمانية يعتمد على معطيات تاريخية يمكن لأي شخص لديه أدنى حد من المعرفة في علم السياسة تقديرها بسهولة. يدعي البعض أن العلمانية تعني حظر القرآن، وإغلاق المساجد وتحويلها إلى مبانٍ أخرى، وممارسة الضغوط على المتدينين. وعند قوله ذلك، يعتمد بالطبع على كمية كبيرة من البيانات التاريخية التي يسهل تمييزها، بل ويمكن تذكرها. لكن العقول المستعمرة لا ترغب في الخوض في هذا الطريق الطويل. بالنسبة لهم، هذا المجال هو "غير قابل للتفكير" بل "غير قابل للاقتراح". لماذا؟ هل يعتقدون أن مثل هذه الأمور لم تحدث؟


إذا كانوا يعتقدون ذلك، فإن الوضع يصبح مثيرًا للاهتمام. فهذا يعني أنهم يرون مثل هذه الأفعال لا تليق بسياسيي الحزب الواحد الذين يرتبطون بهم بإيمان عميق. أي أنهم يرون أن حزب الشعب الجمهوري لا يمكن أن يوافق على مثل هذه الأفعال، وأن نسبة هذا الفعل إليه تعتبر إهانة له. هذه نظرة متفائلة طبعاً، ولكن من المثير للاهتمام أن نرى هذا الاختلاف الكبير بين الجيل الأول من الكمالين والجيل الأخير.


ولكن المعطيات التاريخية واضحة كالشمس: فقد تم حظر قراءة القرآن بالفعل، وأغلقت العديد من المساجد، وتم تحويل بعضها إلى إسطبلات أو مبانٍ أخرى، ومنع الأذان، وأُغلِقت مدارس الأئمة والخطباء، وأُجبر الشعب المسلم على ارتداء طربوش العدو الذي حاربه وطرده من البلاد، وأُجبر على تقليد هؤلاء الأعداء في كل شيء. فكيف يمكن إنكار هذه الحقائق؟ بل إن الحديث عن هذه القضايا، أو حتى التفكير فيها، يكفي لإثارة ضجة، وإطلاق "تابو" جديد.


أثار كلام يوسف تيكين حفيظة حراس التابوهات في حزب الشعب الجمهوري، فشنوا عليه حملة شرسة بكل تعصبهم لإدانته ومحاولة إسقاطه. وبذلك، انكشف بوضوح مدى ضيق الأفق الذي يحكم تلك العقول، وطبيعة المجالات "غير القابلة للتفكير" لديهم. والحقيقة أن يوسف تيكين لم يعارض مفهوم العلمانية بشكل مطلق، بل دعا إلى توضيح مفهومها المتعارف عليه عالميًا ومضمونه القياسي: "ضمان حرية الاعتقاد والعبادة لجميع المواطنين". ولم يكتف هؤلاء الحراس بالهجوم عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل لجأوا إلى القضاء. وربما يكون ذلك أمراً جيداً، لأنه سيتيح الفرصة لمحاكمة أفعال حزب الشعب الجمهوري في هذا الشأن، بدلاً من محاكمة يوسف تيكين. وسيتم بالتالي الكشف عن تلك الممارسات المخزية التي حتى أعضاء الحزب اليوم يشعرون بالخجل منها ويحاولون نسيانها.


ولو أنهم شعروا بالخجل حقًا وسعوا للنسيان، لكنا بدورنا، ساعدناهم في ذلك باسم "الوحدة الوطنية والتضامن"، وتجنبنا إحراجهم كلما أتيحت الفرصة. فلدينا هذا القدر من اللباقة والأخلاق، والحمد لله. لكن المشكلة أنهم لا يشعرون بالخجل، ولا يترددون في تكرار تلك الممارسات والإشادة بها عند كل فرصة تسنح لهم.


ويبدو أن من يقولون إن طرح يوسف تكين لموضوع كهذا في وقت يُنادى فيه للوحدة بين الصفوف ليس مناسبًا، يظنون أنه هو من بدأ الحديث عنه أولا. ولكن الحقيقة هي أن الموضوع لم يُغلق أبداً. فحتى في عهد حزب العدالة والتنمية، استمرت المناهج الدراسية في التركيز على تاريخ الجمهورية التركية بطريقة أيديولوجية ومليئة بالأساطير. هذا الموضوع قديم، لكن تأثيره وفاعليته لا يزالان يتكرران كل يوم وكل ساعة، ولهذا نحن الآن في مرحلة أصبح فيها السكوت عن ذلك أكثر إثمًا. وحتى لو صمتنا وساعدناهم على نسيان أخطائهم، فإنهم يصرون على تذكيرنا بها يوميًا.


دعونا من الأحداث التي وقعت قبل 75-100 عام، فقد أنكروا، ولا يزالون ينكرون، حظر الحجاب قبل 14 عامًا فقط في هذا البلد، بنفس العقلية الاستعمارية والمستعمَرة، ووصلوا إلى مرحلة تهديد إغلاق مدارس الأئمة والخطباء، ومنعوا خريجي هذه المدارس من الالتحاق بالجامعات من خلال تطبيق مقياس المعدل، كما حظروا تعلم القرآن حتى سن الخامسة عشرة.


كما قلت، لو لم يحاولوا فرض تفاهاتهم وجهلهم، وأوهامهم الأيديولوجية والأسطورية حول التاريخ علينا وعلى أطفالنا كل يوم، وبإصرار وقسوة، لقلنا لهم: لكم دينكم ولنا دين، دون أن نلتفت إلى مدى تعصبهم. ولكنهم يصرون على فرض معتقداتهم الدينية علينا، حتى بعد تجاهلنا لهم.


لقد قال يوسف تكين الحقيقة بشكل دقيق وفي الوقت المناسب، وربما قال أقل مما ينبغي. فما يمثله ليس فقط آراءه الشخصية، بل عبر عن رفض للسلطة الاستبدادية التي يتمتع بها البعض والتي تم تعزيزها بشكل مستمر حتى أصبحت فاشية، فليس هناك وقت غير مناسب لمقاومة الاستبداد.



#العقول المستعمرة
#يوسف تكين
#المسلمون
#تركيا