قبل اندلاع حرب الخليج الأولى مباشرة في عام 1991، كان الكثير من المثقفين والمؤثرين في الرأي العام التركي يعتقدون أن الحرب لن تقع. وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا قد جرّتا كل الغرب وراءهما وشكلتا الرأي العام العالمي، ولكن الغريب في الأمر أن مصطلح "لعبة الإمبريالية" هو ما كان يبرز في تركيا. وقد أثّر هذا الشكل من التفكير العميق في كثير من الناس.
وفي إحدى زياراتي مع مجموعة من الأصدقاء إلى أحد المكتبات المشهورة في إزمير قبل بداية الغزو بأسبوعين، ناقشنا هذا الموضوع. وأشرت إلى الأسلحة التي كانت تتجمع في الخليج الفارسي، وأكدت أن الحرب ستبدأ وأن هذه ستكون فترة صادمة بالنسبة لنا. ولكن للأسف، كانوا يرددون نفس العبارة "لعبة الإمبريالية". بل وذكروا أنني لم أفهم هذه اللعبة. وبعد بدء الحرب، تساءلت عما كانوا يفكرون فيه لكنني لم أرغب في الدخول في نقاش جديد معهم. لأن ما ظهر من خلال مفهوم "لعبة الإمبريالية" كان طريقة تفكير، وهذه الطريقة كانت منتشرة جدًا في تركيا.
منذ عام 1991، تعرضت الدول الإسلامية المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط لهجمات أشد ضراوة مقارنةً بالماضي. فقد تمكنت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الجزائر وحزب العمل الديمقراطي في البوسنة بقيادة علي عزت بيغوفيتش من حشد شعوبهما وراءهما.وردًا على ذلك، تدخلت الدول الإمبريالية بشكل المباشر دون اللجوء إلى الحيل أو المؤامرات. ومن الجدير بالذكر أن حركة حماس في فلسطين كانت بدورها تتصدر المشهد النضالي. وكنا جزءًا من هذه الأحداث مع أقرب أصدقائنا في مواقع متعددة. وعند النظر إلى الوراء، أعتقد أن الأفكار التي تبنيناها في ذلك الوقت لا تزال مصدر إلهام حتى اليوم. وفي الواقع لقد شهدنا نقطة تحول مهمة للغاية في التاريخ. والأحداث المؤلمة في البوسنة أكدت ذلك؛ إذ وقعت الأمة الإسلامية في قبضة الموت، وكان التيار الإسلامي مستهدفًا بطريقة جديدة. وفي ظل هذه الظروف الجديدة، بات تحمل المسؤولية أمرًا لا مفر منه.
كما شهدت تركيا أيضًا أحداثًا استثنائية. فقد أعلن أعضاء تنظيم "غولن" الإرهابي بوضوح عن وقوفهم إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، مما كان مؤشرًا على بداية حرب داخلية شديدة. وفي تلك الفترة، كان تنظيم "غولن" الإرهابي قد أصبح قويا للغاية داخل الدولة، وكان يقوم بتسجيل ومراقبة الجميع. ولم يعد بالإمكان تجاهل هذا العصر الجديد أو مراقبته من الخارج. إن المقاربة التي ظهرت مع مفهوم "لعبة الإمبريالية" كانت تحتم الركود والابتعاد عن المشاركة، في حين أن المسلمين كان يجب عليهم أن يتحملوا المسؤولية. ولكن على العكس من ذلك فإن الأيديولوجيات الروحانية بدأت تجد مكانًا جديدًا لها في هذه الفترة، وهو ما أدى إلى تبلور نمطين مختلفين من السياسات.
وقد بدأت أيضًا في هذه الفترة، عملية التحول نحو المحافظة بين التيارات الإسلامية. والمقصود هنا هو تزايد الانقسام بين الجماعات. ومن جهة أخرى، بدأ الفكر الإسلامي والحركات الإسلامية تتغير من داخلها. وكانت أحداث العراق والبوسنة وأفغانستان والجزائر وفلسطين، والشيشان تشكل نمطاً جديداً من الناس. وأصبح من شبه المستحيل أن يبقى الفكر الإسلامي والحركات الإسلامية كما كانت في السابق. وما يُعتبر اليوم نهاية، هو في الواقع شكل قديم من الإسلام السياسي. ورغم أن الفروق بين الجديد والقديم قابلة للنقاش، إلا أنه من الواضح تمامًا أن القرن العشرين قد ولى.
نجت تركيا من محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو. ومن المثير للاهتمام أن مفهوم "اللعبة" و"المسرحية" استمر في الظهور في النقاشات حول هذه محاولة الانقلاب. من الضروري متابعة هذه الاستمرارية بشكل جاد. فالكثير من الذين اعتبروا حرب الخليج الأولى مجرد "لعبة" لم يستطيعوا رؤية أن تركيا نجت من براثن الموت في 15 يوليو. وأنا متأكد من أن هؤلاء الأشخاص يرون في الأحداث الجارية في سوريا مجرد "لعبة" أخرى.
والسوريون بدورهم، نجحوا في النجاة من براثن الموت أمام أعيننا، ولكن يبدو أن إقناع البعض بثورتهم ليس أمرًا سهلًا. ففي سوريا، وعندما كانت الأحداث لم تأخذ شكلها النهائي بعد، بدأ الناس يركضون بشكل يائس نحو سجن الباستيل. بعضهم كان يبحث عن أمه، وبعضهم عن أخيه، وآخر عن أبيه، في محاولة لإنقاذهم إن كانوا على قيد الحياة. ومن العجيب أننا نواجه "باستيل" جديد بعد 250 عامًا. والأكثر إثارة للدهشة هو العلاقة بين سجن الباستيل في سوريا وفرنسا.
إذاً، ما الذي انهار؟ إذا كانت تركيا والمنطقة الإسلامية قد نجحت في الإفلات من براثن الموت، فمن هم الخاسرون؟ يمكننا أن نجيب بشكل منفصل على هذا السؤال، ولكن يمكنني أن أقول بوضوح إننا بدأنا في تحطيم النظام الاستعماري الذي أُقيم في منطقتنا بعد الحرب العالمية الأولى، من خلال ضربه في نقطة ضعفه. فالهياكل التابعة تنهار واحدًا تلو الآخر، وأطلال الحكم الانتدابي تتساقط. وكانت عائلة الأسد من أقوى عناصر هذا النظام. إن انهيار النظام بعد حرب دامت ثلاث عشرة سنة يظهر بوضوح الثمن الذي دفعته سوريا جراء تحمل المسؤولية. لقد دفع السوريون هذا الثمن بأقسى صورة.
يقولون إنهم لن يصدروا الثورة، وهذا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار. ولكن البنية التي ظهرت ستغير الكثير من الأشياء بالفعل.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة