روح الدولة العثمانية.. ملاذ الإنسانية وأملها وآفاقها

09:005/01/2025, Pazar
تحديث: 5/01/2025, Pazar
يوسف قابلان

فشلت الحضارات الغربية في إيجاد صيغة مشتركة للعيش بسلام بين مختلف الأديان والثقافات. لكن الصيغة الوحيدة التي استطاعت تحقيق ذلك، والتي لم يتم فهمها أو تقييمها بشكل صحيح، هي الصيغة التي وضعها العثمانيون. لهذا السبب يشعر الغرب بالعداء تجاه العثمانيين، حتى مجرد ذكر اسمهم يثير الرعب في نفوسهم. لقد كان النجاح الذي حققته تركيا في سوريا كافياً لإحياء "النهضة العثمانية الجديدة" في الأذهان، والدولة العثمانية هي كابوس الغرب. فالحضارة الغربية، رغم وجودها ماديا، قد ماتت روحياً، ولم تعد قادرة على تقديم أي شيء

فشلت الحضارات الغربية في إيجاد صيغة مشتركة للعيش بسلام بين مختلف الأديان والثقافات. لكن الصيغة الوحيدة التي استطاعت تحقيق ذلك، والتي لم يتم فهمها أو تقييمها بشكل صحيح، هي الصيغة التي وضعها العثمانيون. لهذا السبب يشعر الغرب بالعداء تجاه العثمانيين، حتى مجرد ذكر اسمهم يثير الرعب في نفوسهم.

لقد كان النجاح الذي حققته تركيا في سوريا كافياً لإحياء "النهضة العثمانية الجديدة" في الأذهان، والدولة العثمانية هي كابوس الغرب. فالحضارة الغربية، رغم وجودها ماديا، قد ماتت روحياً، ولم تعد قادرة على تقديم أي شيء للعالم سوى الدماء والدمار والمجازر والدموع.

على عكس الدولة العثمانية، فبرغم زوالها المادي، ما زالت حية روحياً. وتمثل آخر وأرقى محاولة لبناء عالم أكثر إنسانية. وهذا ما يفسر صرخات بعض الكتاب الغربيين الذين ينادون بعودة العثمانيين.

فكل من يصرخ ويشتكي من إحياء "النهضة العثمانية الجديدة" إما أنه مغسول الدماغ ومعادٍ للإسلام، أو أنه شخص أحمق أو متطفل لا يفهم أين يكمن سر قوة تركيا.


روح الدولة العثمانية.. ملاذ الإنسانية وأملها وآفاقها

كانت الدولة العثمانية روح العالم، وملاذا للعدل والرحمة والإنصاف، وأفقاً للأخوة. ومع زوالها فقد العالم روحه وأصبح محكوماً باللا روحانية. وحولت الحروب العالمية المتتالية العالم إلى جحيم.

لقد كان الهدف من الحرب العالمية الأولى القضاء على الدولة العثمانية، وإسقاط الخلافة من تاريخ البشرية. وبالفعل انتهت الحرب بانسحاب العثمانيين من التاريخ. ورغم سقوط الدولة العثمانية، إلا أن روحها ما زالت حية. فروح العثمانيين لم تمت ولا يمكن أن تموت، لأنها كانت روح الإنسانية وأملها ومسكنها. ورغم زوالها المادي استمرت حية بروحها.

والسؤال المحوري المحير الذي يجب أن يُطرح هنا هو: إذا كانت روح العثمانيين ما تزال حية، فهل لتركيا روح؟

لقد تم طمس روح العثمانيين ومحوها من حياة تركيا لمنعها من أن تصبح روحاً لتركيا. فتركيا اليوم رغم وجودها المادي، إلا أنه روحها ميتة.

ويعتبر المعماري سنان أحد أبرز رموز الروح العثمانية. ورغم أن الدولة العثمانية التي ساهم سنان في بناء روحها قد توقفت فعلياً، إلا أن روحها لا تزال حية.


فما هي الروح العثمانية؟

إنها روح السلاجقة، ولكن بصورة أكثر صفاءً ومرونة.

لقد كانت الروح العثمانية روح العالم، ملاذ الإنسانية وأملها وآفاقها.

وقد أصبحت الروح العثمانية جوهر الطبيعة البشرية التي جسّدها الأوائل المؤمنون والمخلصون الذين بنوا تلك الروح.


الروح العثمانية في السليمانية.. تجسيد للفكر والذكر والشكر

تعتبر العمارة العثمانية، وخاصة جامع السليمانية، خير تعبير عن الروح العثمانية. ففي العمارة العثمانية تصل الهندسة إلى ذروة الإبداع، تماماً كما يصل الشعر إلى ذروته في الأدب العثماني. إن الشخصية الإنسانية المثالية التي أنشأتها الروح العثمانية هي مزيج من النبل والتواضع.

وقد بلغ هذا المزيج من النبل والتواضع ذروته في أعمال المعماري سنان، وخاصة في جامع "سليمانية". فجامع السليمانية هو ذروة الجمال. وتجسيد لروح الإنسان الكامل.

ويُعتبر جامع السليمانية رقصة للتناسبات الجمالية، ويمثل صلة الروابط الروحية والمعنوية، ونتيجة الانتماء الخالص إلى الحقيقة.

إن الروح التركية متجسدة في أعمال المعماري سنان وخاصة في السليمانية. ففي السليمانية، تتجلى النسبة الإلهية التي تتجاوز النسبة التقليدية، وتجد تجسيداً لها في العزلة . فالعزلة في السليمانية هو دلالة على التواضع والخلود معاً. وفي امتزاج النبل والتواضع في السليمانية، نجد صورة الإنسان الكامل الذي يتجاوز الزمان المادي ليصل بالإنسان إلى عالم الملكوت. إنها ثمرة معاناة متعددة الجوانب والطبقات. رحلة الفكر والذكر والشكر.

إن معاناة الفكر هي قمة التأمل، وتتحقق بالانفتاح على عالم الملكوت.

فهي تحرر المكان من بعده المادي وتحوله إلى عالم روحي وبالطبع لهذا ثمن، وهو معاناة الذكر التي تنمو. ومعاناة الذكر تذكر الناس بما فقدوه.

أما معاناة الشكر، فتجمع الإنسان مع الحقيقة. فالحقيقة لا تمنح للإنسان إلا إذا تجاوز عالم المادة، حتى حقيقة الأشياء المادية.

والعالم المادي هو ما يظهر للعين، وهو مرتبط بكل ما هو ظاهر. أما الحقيقة، فهي مستترة خلف هذه المظاهر، مختبئة ومحجوبة.

والحقيقة التي تبني الروح وتمنح الأمة والحضارة روحها، والتي تغذيها وتنميها باستمرار، هي الحقيقة التي تجعل كل جوانب الحقيقة الظاهرة والباطنة تزدهر بألوانها الزاهية. ورحلة الحضارة الحقيقية، التي لا مثيل لها في أي حضارة أخرى، هي رحلة محفوفة بالمخاطر ومليئة بالكرامة.. معاناة الفكر ونشوة الذكر وثمرة الشكر.

معاناة الفكر هي ثمرة العقل السليم. وفرحة الذكر هي هبة القلب السليم. وثمرة الشكر هي اللذة الفريدة التي يمنحها الذوق السليم للإنسان.


السنة النبوية.. عندما يعود الكلام إلى جذوره يستقر في القلب

عندما يعود الكلام إلى جذوره يستقر في القلب، ويضفي روحًا على الإنسان والوجود، ويحول الحياة إلى حياة فريدة، ويؤسس لأرقى نماذج الحضارة الحقيقية.

وكما أكرر دائماً: الحقيقة لا تُمنح للجميع، بل تُعطى لمن يستحقها. ولكي يستحق المرء الحقيقة عليه أن يتحمل مشقتها وأن يدفع ثمنها. فالكلام الذي يتحمل مشقته ويدفع ثمنه يرتقي إلى مرتبة الحقيقة الأساسية، ويُغنِي الحياة بالحقيقة، ويجعلها موطنًا للعدل والإنصاف والرحمة، وأرضًا للأمل والمستقبل.

فمكة هي موطن الحقيقة، والمدينة هي أمل الحقيقة. وحضارة المدينة التي تجمع بين مكة والمدينة هي أفق الحقيقة.


السنة النبوية هي أساس الحضارة الحقيقية ووسيلتها ومكانها وحالتها

السنة النبوية هي الوسيلة والمنهج الذي من خلاله يتم نقل جميع جوانب الحقيقة الظاهرة والباطنة، وكل مراحل الحقيقة، إلى الحياة كما وردت في القرآن الكريم بأشكال مختلفة وفي مواضع متعددة.

والكلمة تصل إلى جوهرها وبصيرتها من خلال السنة النبوية.

والكلمة التي لا تصل إلى جوهرها وبصيرتها لا تستطيع أن تلامس الحياة، وبالتالي لا تستطيع أن تبني عالمًا، ولا تستطيع أن تُغنِي الحياة بالحقيقة، ولا تستطيع أن تفتح قلب الإنسان، ولا تستطيع أن تنشئ توازنًا ورابطة جميلة بين الإنسان والطبيعة.

لماذا؟ لأن القرآن هو الأصل والسنة النبوية هي الطريقة. والهدف الرئيسي هو الوصول إلى الحقيقة. فإذا لم تكن هناك طريقة، فسيكون هناك انحراف وتشتت.

وبعبارة أكثر شعرية وبساطة: القرآن هو المصدر والسنة النبوية هي النهر. والهدف الرئيسي هو الوصول إلى الحقيقة. ولأجل ذلك، ينبغي أن يجري النهر في عذوبة وحيوية، فلتجرِ الأنهار بغزارة كي تتدفق الحياة من المنبع.

وفي رحلة الإنسان نحو الحقيقة، يمثل القرآن منبع الروح الخالقة، بينما تمثل السنة النبوية مجرى هذا المنبع.

ولكن كيف تتجلى العلاقة بين القرآن والسنة النبوية؟

يتجلى ذلك في ثلاث مراحل: مرحلة الأقوال ومرحلة الأفعال ومرحلة الأحوال. وهذه المسألة تستحق دراسة مستقلة وتفصيلًا أعمق في مقال لاحق.


#الدولة العثمانية
#تركيا
#الروح
#القرآن
#السنة النبوية
#الحقيقة