في سوريا، لم يُعتبر إسقاط النظام الذي استمر في قمع شعبه لمدة 54 عامًا، خسارةً لأي دين أو مذهب أو قومية، سواء في نظر الثوار أو من فرحوا واحتفلوا بانتصار الثورة. فقد حرص الثوار، رغم المعاناة الجسيمة التي تكبدتها مختلف الفئات حتى الآن، على ألا يتحول نضالهم إلى أداة انتقام ضد أي عرق أو مجموعة. وكما صرّح قائد الثورة أحمد الشرع ورفاقه: "النصر دون انتقام كان هدفنا الأسمى"، وقد سعوا بالفعل لتحقيق ذلك منذ اليوم الأول.
إن الجرائم الإنسانية والانتهاكات التي ارتكبها هذا النظام طيلة 54 عامًا تجلَّت بوضوح في المشاهد المروعة التي خرجت من سجون صيدنايا وتدمر وحلب ودير الزور وغيرها. هذه السجون التي باتت شاهدة على أبشع الجرائم بحق الإنسانية، كشفت أن أكثر مؤسسات النظام انتظامًا وفعالية كانت تلك التي يمارَس فيها كل أشكال التعذيب والمعاملة اللاإنسانية. فلم يكن أي فرد من الشعب السوري بمنأى عن الوقوع في براثن هذه السجون في أي لحظة.
لا يمكن لأي شخص أن يشفق على نظام الأسد أو يذرف الدموع عليه،. فمن يفعل ذلك يعتبر شريكاً في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها. لقد أصبح صيدنايا رمزًا يمثل كل هذه الجرائم، فهو مكان تداس فيه كل القيم الإنسانية، إنها تجسيد للشر المطلق، حيث يتم توظيف الذكاء البشري والإرادة لتنفيذ أبشع الجرائم، لتصبح هذه الممارسات جزءًا عاديًا من سلوك النظام تجاه الشعب. إن نظام السجون الممتد في أنحاء البلاد يقدم تفسيرًا كافيًا لسبب هروب الشعب السوري طوال 14 عامًا إلى خارج البلاد، ولماذا لم يثق أولئك الذين فروا في العودة حتى في ظل الهدوء النسبي في الآونة الأخيرة. إن شعبًا اعتاد أن تكون المعاملة المعتادة من دولته هي ما يمثله صيدنايا، لا يمكن تجاهل معاناته أو الإقرار بتركه لمصيره؛ فالضمير الإنساني يجف حين يقبل بذلك.
في سوريا، لم تكن هناك دولة؛ بل كانت هناك عصابة متعطشة للدماء أُنشئت فقط لارتكاب الجرائم. إن معاملة هذه العصابة على أنها دولة داخل منظومة الأمم المتحدة حتى آخر أيامها هي بحد ذاتها فضيحة للنظام الدولي. وما فرار حوالي 10 ملايين شخص من بلد يشكل عدد سكانه 22 مليون نسمة ولجوؤهم إلى دول أخرى، ونزوح الملايين داخل البلد، إلا دليل واضح على أن ما كان موجودًا في سوريا لم يكن دولة، بل منظمة إرهابية وعصابة إجرامية تهدد الإنسانية.
لقد عثر في مرآب ماهر الأسد على حوالي 1350 سيارة. وفي رد على التعليقات التي تشير إلى أن هذه السيارات تم شراؤها بأموال الشعب، سألني صديق السوري: "هل تعتقدون حقاً أنهم اشتروا هذه السيارات بالمال؟" ثم أضاف لي بُعدًا آخر للقصة: "كان ماهر أو أي فرد من العائلة عندما يسير في الخارج، يسرق بسهولة أي سيارة تعجبه على الطريق. كانت عملية الاستيلاء على السيارات تظهر على أنها سرقة سيارات، لكن صاحب السيارة لم يكن لديه أي فرصة لاستعادة سيارته المسروقة. وبعد فترة قصيرة يدرك صاحب السيارة أنه لا أمل له في استرداد سيارته".
الآن وبعد أن سقطت هذه العصابة اللاإنسانية التي كانت تشكل تهديدًا ليس فقط للشعب السوري بل للبشرية جمعاء، هناك من يتأسف على سقوط هذه العصابة. أما الأكثر انصافًا منهم، فهم لا يتباكون لأنه أطيح بالأسد، بل لأنهم يلقون اللوم على الثورة التي أنقذت الإنسانية من هذا التهديد، محاولين البحث عن أصغر عيوب للثورة لانتقادها، ويزعمون، بناءً على الخريطة التي أعلنها أحمد الشرع الذي أنقذ الشعب السوري وأنقذنا من بلاء كبير، والتي تهدف إلى إجراء انتخابات خلال أربع سنوات، أن أياما سوداء تنتظر سوريا. أية وقاحة وأية سفاهة هذه، قد يظن من يسمع هذا الهراء أنه كان هناك ديمقراطية في سوريا، وأن ما حدث قد عطل هذه العملية الديمقراطية. لكن لا أحد يعتقد ذلك، إن أولئك الذين يثيرون هذه الضجة إنما يعبرون عن حزنهم ويظهرون بكل وقاحة تواطؤهم في هذه الجرائم.
كيف يمكن للبعض أن يروا صور اعتقال أو إعدام الناس من قبل الشبيحة، الذين قتلوا العشرات والمئات من الأبرياء السوريين بوحشية ودموية، ثم يصرخون قائلين "العلوية يُقتلون"؟ هل كان الشبيحة ونظام الأسد يرتكبون هذه الجرائم ضد الإنسانية باسم الطائفة العلوية؟ وهل كان أولئك الذين صمتوا طيلة الوقت ولم يعبروا عن استنكارهم بسبب كونهم علويين؟ أية غفلة وأي إهمال وأية قلة وعي هذه؟ صحيح أن صدام كان سنيًا، ولكن مَن مِن السنة ذوي الضمائر الحية قد دعم أفعاله الوحشية؟ ومبارك كان سنيًا، فمن من السنة وصف الثورة ضده بأنها انقلاب على السنة؟ ألم يكن علي عبدالله صالح، معمر القذافي وعبد الفتاح السيسي وزين العابدين بن علي، ألم يكونوا جميعًا من السنة؟ هل هناك من حاول أن يتغاضى عن جرائمهم أو يسامحهم فقط لأنهم سنة؟ ألم تكن الشعوب المضطهدة التي ثارت ضد رؤسائها هؤلاء، من أهل السنة أيضاً؟ وهل كانت معارضة الشعب السوري لنظام الأسد بسبب كونه علويًا، أم بسبب المعاناة والظلم البشع الذي تعرضوا له والذي أودى بحياة الكثيرين منهم؟
ومن الجدير بالذكر أن العديد من شيوخ النصيرية في اللاذقية ومناطق أخرى قد أصدروا بيانات يؤكدون فيها أنهم أنفسهم أكبر ضحايا نظام الأسد، مشيرين إلى أن الأفعال التي قام بها الأسد لا علاقة لها بعقيدته العلوية، وأنهم يدعمون الحكومة الجديدة حتى النهاية. وبغض النظر عما قام به البعض في تركيا، ألا ينبغي أن نتساءل كيف يمكن للبعض أن يبكي على الأسد بعد كل هذا الظلم الذي مارسه؟
لم تكن الثورة في سوريا ضد العلويين أو النُصيريين، بل كانت ثورة ضد بنية إجرامية لا إنسانية. هذه البنية الإجرامية لم تتحمل أبداً مسؤولية الدولة تجاه الشعب السوري. ولم يكن لها أي أولويات تتعلق بتوفير الأمن أو رفاهية الشعب الاقتصادي. واليوم كل من يزور سوريا لا يرى أي أثر لدولة تعمل على خدمة شعبها، بل يشهد انتشار السجون، ومراكز التعذيب، وورش تصنيع المخدرات، بالإضافة إلى مستودعات السيارات المسروقة التي تديرها عائلة الأسد مباشرة. ولا توجد أي خدمات حكومية تقدمها الدولة إلى الشعب باستثناء بعض الأعمال التجارية التي تحقق أرباحا ضخمة لعائلة الأسد مثل خدمات الاتصالات.
ولا نرى بين الشعب السوري من يندب هذا النظام الذي يعد فضيحة كبيرة للإنسانية في عصرنا، ولكن يبدو أن بعض الجهات في تركيا قد أقامت الحداد عليه.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة