هل أصبح الإنسان كياناً ثانوياً؟

08:477/10/2024, الإثنين
تحديث: 10/10/2024, الخميس
سليمان سيفي أوغون

يُعتقد على نطاق واسع أن العصر الحديث شهد تحفيزًا واستثمارًا كبيرين في مجالي العلم والتكنولوجيا، ورغم وجود بعض العيوب، إلا أنه يمكن إصلاحها بالإرادة البشرية. العقل، العلم، والتكنولوجيا - التي يمكن اعتبارها "الثالوث الحديث" - تُشكل الأساس الذي يعتمد عليه الفكر الإنساني المعاصر. يرى "الثالوث الإيجابي" في التكنولوجيا وسيلة لتحقيق التقدم وسعادة البشرية. بشرط أن يتم تطويرها واستخدامها في اتجاه نافع، تُصبح التكنولوجيا شيئًا مقدسًا على مستوى عالمي. من المعروف أن مستقبل البشرية يتشكل من خلال التطورات التقنية،

يُعتقد على نطاق واسع أن العصر الحديث شهد تحفيزًا واستثمارًا كبيرين في مجالي العلم والتكنولوجيا، ورغم وجود بعض العيوب، إلا أنه يمكن إصلاحها بالإرادة البشرية. العقل، العلم، والتكنولوجيا - التي يمكن اعتبارها "الثالوث الحديث" - تُشكل الأساس الذي يعتمد عليه الفكر الإنساني المعاصر.

يرى "الثالوث الإيجابي" في التكنولوجيا وسيلة لتحقيق التقدم وسعادة البشرية. بشرط أن يتم تطويرها واستخدامها في اتجاه نافع، تُصبح التكنولوجيا شيئًا مقدسًا على مستوى عالمي.


من المعروف أن مستقبل البشرية يتشكل من خلال التطورات التقنية، ويُنظر إلى هذا على أنه المرحلة النهائية والأسمى في مسار التاريخ التكنولوجي. ومع ذلك، هناك نقطتان مهمتان غالبًا ما تُغفلان. الأولى هي أن السياسة الاقتصادية التي أوجدت هذا "الثالوث الحديث" لا تلقى الاهتمام الكافي.

ويتم إخفاء ذلك بقصة شائعة مفادها: أن ألف عام من ظلام العصور الوسطى انتهت فجأة، لتستيقظ البشرية وتبدأ عصر النور. ورغم جهود "قوى الظلام" في عرقلة هذا التحول، توجه الإنسان نحو العلم، العقل، الفلسفة، والفنون الرفيعة. ومع انتشار هذه التطورات، التي انطلقت من الغرب، يتوقع أن يصبح العالم في النهاية جنة للبشرية.


إن هذا التصور الطفولي يعكس سذاجة في الفهم. ففي الواقع، هناك ديناميكية مادية حقيقية تحفز العلم والعقل والتكنولوجيا، وهذه الديناميكية ليست سوى الرأسمالية المتعطشة للربح والمبنية على المصالح. بمعنى أن العقل والعلم والتكنولوجيا لم تكن هي من أنتج الرأسمالية، بل إن عمليات التراكم الرأسمالي هي التي أوجدتها. ومن خلال التجارب، ثبت أن إصلاح الرأسمالية أمر غير ممكن. فكل المحاولات التي بُذلت في هذا الاتجاه انتهت بفشل ذريع.


أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية، فإن التطورات التكنولوجية الراهنة قد أفرزت وضعًا جديدًا، حيث انفصلت التكنولوجيا عن الثلاثي (العقل، العلم، والتكنولوجيا) وأصبحت قوة مستقلة بذاتها. فالتكنولوجيا لم تعد مجرد أداة بل غاية في حد ذاتها. لم نعد نسأل: ماذا يمكن أن نفعل بهذه التكنولوجيا؟، بل أصبح السؤال: ما الذي ستفرضه التكنولوجيا علينا؟. وهكذا بات العصر الرقمي يشكل قوة حرة تحدد نمط حياتنا.


الأمر الأكثر خطورة في هذا "الراديكالي الرقمي" هو أنه يشبه ثقبًا أسود يبتلع تراكمات البشرية عبر آلاف السنين. فآلية عمله تعتمد على إبطال أفعالنا وجعلها تبدو بلا معنى. كل ميزة جديدة تهدف إلى تسهيل حياتنا والقضاء على الحاجة للعمل اليدوي تبعدنا تدريجيًا عن الأشياء والناس من حولنا، مما يؤدي إلى زيادة الخمول. وما يزيد هذا الوضع تعقيدًا هو أن هذا الانفصال يحدث تحت تأثير وهم يجعلنا نعتقد أننا نقترب من كل شيء بشكل أسرع وأسهل. ولكن الحقيقة هي أن كلما شعرنا أننا نقترب من شيء ما، نكون في الواقع نبتعد عنه أكثر. وقد أشار زُنّون المصري إلى هذا المفهوم قبل قرون حين قال: أبعد الناس عن الله هم الذين يشيرون إليه.


هذه الفكرة تنطوي على جدلية عميقة؛ فعلى الرغم من أن مكتبات العالم كلها أصبحت في متناول أيدينا اليوم، إلا أن الجهل العالمي ينمو بوتيرة غير مسبوقة. التواصل بين الناس أصبح أكثر سهولة من أي وقت مضى، حيث يمكننا الوصول إلى أحبائنا وأصدقائنا بلمسة زر، بل ورؤيتهم إذا أردنا. ومع ذلك، هذه السهولة تؤدي إلى تآكل مشاعر الاشتياق وتفقدنا الرغبة الحقيقية في التواصل الشخصي. فمع كل تواصل جديد، نفقد جزءًا من الحميمية. ربما يكون ثمن رؤية كل شيء هو العمى، وثمن سماع كل شيء هو الصمم، وثمن تذوق كل شيء هو فقدان النكهة. وفي النهاية، هذا الفقدان التدريجي للحواس سيؤدي بلا شك إلى فقدان أعمق للمشاعر.


باختصار، إن تراكمات البشرية لا يتم تدميرها بفعل هذا "الثقب الأسود" الرقمي، بل يُعاد إنتاجها بشكل جديد، ولكن على حساب خسارة جوهرية في مشاعرنا وإنسانيتنا.

يتشكل نوع جديد من الإنسانية: إنسان تقلصت أفعاله وتجمدت مشاعره. في العوالم الرقمية، كل شيء يبدو حاضرًا ولكنه في الوقت ذاته غائب. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، فكل وجود في العالم النسبي يأتي مصحوبًا بنقصان في جانب آخر. المسألة تتعلق بقدرتنا على تحديد ما نضحي به مقابل ما نسعى للحصول عليه، مع الحفاظ على أساس يمكننا من التحكم في أفعالنا. إلا أن هذا الأساس لم يعد موجودًا اليوم. هناك قوى تدفعنا نحو وفرة هائلة دون بذل جهد حقيقي، وفي تلك الوفرة نفقد كل شيء قبل أن ندرك قيمته.


يأتي هذا التحول مصحوبًا بحالة من النشوة العامة. العالم الرقمي يمنح الإنسان تحررًا مؤقتًا من الضغوط التقليدية التي فرضتها مؤسسات مثل الدين، والدولة، والأخلاق على مدى آلاف السنين، فيأخذه إلى عالم افتراضي سحابي. نعتقد أن هذه السحابة الرقمية تمثل الحرية، لكننا نكتشف سريعًا أن تلك المؤسسات نفسها أصبحت مدججة بالتكنولوجيا، مما يصيبنا بالذهول.


لكن هل بدأت القصة بهذه الطريقة؟ لقد أعلنا موت الله وأصبحنا ننظر إلى الطبيعة كفرضية فقط، ثم نهبناها بوحشية تحت شعار خدمة الإنسان المؤله. ولكن الإنسان المؤله دمّر كل شيء. واليوم، أصبح الإنسان يرى نفسه كأدنى المخلوقات. التقنية تعيد فتح المجال أمام الطبيعة والله، لكن عبر بوابة كراهية الإنسان.


العالم اليوم تحركه الكراهية، وهذه الكراهية ليست شعورًا عميقًا أو متأملًا، بل هي انفعال لحظي متقطع، يقدس أفكارًا مجردة ويرغب في تدمير كل ما يخالفها. العودة إلى الله والطبيعة الآن تُحكم بهذا الانفعال. على سبيل المثال، عبادة الطبيعة فيما بعد الحداثة تقوم على كراهية الإنسان، مما قد يؤدي بسهولة إلى العنصرية.

أما العودة إلى الله، فقد تطورت إلى نوع من الحقد السياسي الديني الذي يؤدي إلى سفك الدماء. الطوائف الحديثة التي تمارس العنف تمثل الجانب غير التقليدي لهذا الحقد، بينما تمثل الصهيونية والإنجيلية جانبه التقليدي. حتى المجالات الفكرية لم تنجُ من هذا التأثير. العلماء، والفلاسفة، والمثقفون، والكتاب يعيشون في صراع دائم.


في الواقع، العالم التقني، الذي أصبح مجال الاستثمار المفضل للرأسمالية، يحول الإنسان، الذي أغرقته النشوة وجعلته خاملاً، إلى كيان عديم القيمة لا يمكن استعادته مرة أخرى.

#الفلسفة
#التكنولوجيا
#العالم الرقمي
#الإنسان والعالم الرقمي
#الرأسمالية
#قيمة الإنسان في عصر التكنولوجيا